الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإذا كانوا حمقا ولا عقول لهم فلا يرجى منهم خير ولا عود إلى الخير.روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول يا أيها النّاس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النّار يبكون في النّار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تقطع الدّموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون فلو أن سقنا أجريت فيها لجرت.فتأمّلوا رحمكم اللّه في هذا واعقلوا ما يراد منكم، فالعقل هو الإمام الحق والصّاحب الوفي والنّور المضيء، والشّاهد الذكي المميز الحق من الباطل، والخير من الشّر، والصّدق من الكذب، المشوّق إلى العلم والحكمة، والآلف من الدّناءة والخسة، وبه توجد السّعادة العظمى والسّلامة في الآخرة والأولى، فالسعيد من جعل همه في معاده ولم يخض بما لا يعنيه، ولا يترك الخوف في أمنه ولا بيأس من الأمن في خوفه، وتدبر الأمور في علانيته وسرّه، ولم بذر الإحسان في قدرته، وحادث النّاس فيما يجهل، فإن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب.وعليه فليأخذ ما استطاع من كلامه ففيه المزالق، وقيل فيه:
وقال الآخر: وخفف ما استطعت من الدّنيا، فإنه لا يجتمع حب الدّنيا والآخرة بقلب واحد.واحذرها فإنها تقمصت بجلد الشّاة على قلب الذئب، قال أبو نواس: فالدنيا هي الدّاء الدّفين ودواؤه تركها وترك أهلها لأنهم داء لا دواء لهم، قال الحيص بيص: فهذا ثعلبة كيف غرّته الدّنيا فخسرها مع الآخرة بسبب الطّمع: فنتيجة الطّمع الهلاك، فلا ثرجو خيرا من طمع: قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} يا حبيبي من غزوتك هذه {إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} أي المتخلفين بلا عذر ثم جاءوك {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} إلى غزوة أخرى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} بسبب {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ} [83] العاجزين والصّبيان والنّساء وأرباب العاهات، فتبا لكم على اختياركم القعود معهم، أما أنا فقد أغناني اللّه عنكم وأرجعني وأصحابي بخير، لأن اللّه وعدني بذلك، ووعده حق، وقد حل بكم النّدم على اختياركم القعود وما فعلتم ولات حين مندم، وقد فاز من فاز بمرافقتي وخسر وخاب من تقاعس، وقد جف القلم بما هو كائن للفريقين.قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} [84] خارجون عن طاعتهما، وهذه الآية تشير إلى إهانتهم بعد الموت كما كانوا قبله، وقد وصفهم اللّه بالفسق بعد الكفر، مع أنه داخل فيه، لأن الكافر قد يكون عدلا يؤدي الأمانة ولا يسيء إلى أحد، وقد يكون مع كفره على ضد ذلك خبيث النّفس ماكرا مخلدعا غشاشا.ولما كان المنافقون جامعين لهذه الصّفات القبيحة المخزية، نعتهم اللّه تعالى بالفسق بعد الكفر، وكلاهما خبيثان. .مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن: روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال لما مات عبد اللّه بن أبي سلول دعى له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام صلّى اللّه عليه وسلم وثبت إليه، فقلت يا رسول اللّه أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا: كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقال أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال إني خيّرت فاخترت.أي خيرت في آية الاستغفار عدد 80 المارة لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، وهذا من كرم أخلاقه صلّى اللّه عليه وسلم وعظيم عفوه وكثير صفحه عمن أساء له، وشدة حرصه على من ينيب اليه، لأن هذا من أشد النّاس عداوة له صلّى اللّه عليه وسلم فداك أبي وأمي ما أحلمك يا رسول اللّه.واعلم أيها القارئ أن هذا لا يعارض قوله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى} الآية 8 من سورة المنافقين المارة، لأن هذا الاستغفار مخير فيه لا منهي عنه، والفرق بينهما واضح، تأمل.وقد علم صلّى اللّه عليه وسلم بطريق الوحي أنه لا يغفر له، قال فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلّا يسيرا حتى نزلت الآية، قال فعجبت من جرأتي على رسول اللّه يومئذ، وهذا الحديث مقيد بحديث سأزيد على السّبعين الذي يفيد الوعد المطلق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وتقيد وتخصص أيضا، كالآيات القرآنية، واللّه ورسوله أعلم.وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وزاد فيه، فما صلّى صلّى اللّه عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللّه، وفي رواية جابر للبخاري ومسلم أنه ألبسه قميصه ونفث عليه، وإنما فعل هذا حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم مع هذا وهو راس المنافقين، مع علمه أنه مات على نفاقه تطييبا لخاطر ابنه عبد اللّه لشدة إخلاصه وصلاحه وصدقه ومحبته لحضرة الرّسول ينبيك عن هذا ما نوهنا به في الآية 8 من سورة المنافقين المارة مما قاله لابنه وما ذكره بحضرة الرّسول، ولذلك قال حضرة الرّسول على قبره وصلّى عليه قبل النّهي، وهذا من بعض محاسن أخلاقه صلّى اللّه عليه وسلم، ولما رأى المنافقون وقوم عبد اللّه بن سلول ما قام به صلّى اللّه عليه وسلم من مقابلة إساءة عبد اللّه لحضرته بالإحسان حال حياته، وبالإحسان بعد وفاته أسلم كثير منهم، وإنما كساه ثوبه بعد موته لأنه كان حينما جيء بالعباس أسيرا يوم بدر كساه عبد اللّه ثوبه، وقد حفظ له معروفه ذلك وهو أهل المعروف وأولى ممن يقابل السّيئة بالحسنة.هذا وان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم زار قبر أمه عام الحديبية قبل النّهي لما لها من حق الأمومة، وذلك قبل نزول هذه الآية، لأنها نزلت بعد غزوة تبوك، فلا يرد عليه مقال، ومن قال أن زيارته لها بعد النّهي أي بعد نزول هذه الآية فقد أخطأ، لأن التاريخ يكذبه، على أنها رحمها اللّه من أهل الفترة، وأباه كذلك، والقول الصّحيح أن أهل الفترة غير مؤاخذين.ولا مانع يمنع من زيارة قبور الكفار، لأن القصد من الزيارة التذكر بالآخرة، قال صلّى اللّه عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة.ومن جعل العلّة في الزيارة الدّعاء لهم لا مستند له، لأن الدّعاء يكون في كلّ مكان على أنه لو فرض صحة ذلك فإن العلة لا تدور مع المعلول، لأن الخمر حرمت لعلة الإسكار، فهل يقال بإباحتها لمن لم يسكر بسبب إدمانه عليها أو لأمر آخر، وقد حرم الزنى لعلة اختلاط الأنساب فهل يباح لعقيم أو عجوز لا يتصور منهما ذلك، وحرم القمار لعلة أخذ أموال النّاس بغير حق، فهل يباح اللّعب به إذا لم يتحقق أخذ المال بغير حق، لأن المقامر قد يربح وقد يخسر، وقد لا يربح ولا يخسر، وهكذا في سائر المحرمات، فانه لا يجوز قربها ولو لم تحقق العلة، ولهذا فإن عدم الدّعاء للأمرات لا يمنع من زيارة قبورهم تأمل قوله صلّى اللّه عليه وسلم تذكركم الآخرة لأن فيها عبرة وعظة حصل الدّعاء أم لم يحصل.قال تعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)} وهذه نظير [الآية 55] المارة وتفسيرها تفسيرها، وقد يكرر اللّه بعض الآيات في سورة واحدة لحكمة يعلمها، لأن تجدد النّزول له شأن في تقرير ما أنزل وتأكيد له ولئلا يغفل المخاطب عنه وليعتقد أهميّته وخاصة فيما يتعلق بالأموال والأولاد، الآتي ذكرهما في أكثر السّور، لأنهما أشد جذبا للقلب من غيرهما، ولهذا حذر اللّه تعالى من الانهماك بهما المرّة بعد الأخرى مبالغة في التحذير من الانشغال بهما عن أمور الآخرة.واعلم أنه قد يوجد تقارب بين الآيات الكريمة، قد لا يحس بها، فهذه الآية صدّرت بالواو الاستئنافية إذ لا علاقة لها بما قبلها، ولم تزد فيها (لا) بعطف الأولاد، دلالة على عدم التفاوت بينهم وبين المال في المحبة عندهم، وصدرت الأولى بالفاء المفيدة للعطف على ما قبلها وهي {لا ينفقون إلّا وهم كارهون} [الآية 54] المارة لشدة محبتهم بالمال وزيد فيها (لا) لزيادة التأكيد الدّال على أنهم معجبون بها وإعجابهم بأولادهم أكثر وجاء فعل يعذبهم مقرونا باللام مع العلم بأن التعليل في أحكام اللّه محال وفي هذه بلفظ ان دون اللام وان حرف التعليل فيها بمثابة ان قال تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} الآية [6] من سورة البينة المارة أي ما أمروا إلّا أن يعبدوا اللّه، وجاء في الأولى في الحياة الدّنيا تبينها على أن حياتهم كلا حياة وهنا في الدّنيا فقط إشارة إلى أن حياتهم بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق الذكر ولا تسمى حياة لذلك انتصر في ذكرها وقدم الأموال على الأولاد فيها لشدة الحاجة إليها مع أن الأولاد أعز منها لأنها تصرف في سبيلهم كما أنهم يفارقون أنفسهم بطلبها ومهما كان في الولد عز فالفقر أذل في عزة الأولاد لهذا فإن من لم يتفكر في الآيات يظنّ أنها مكررة حرفيا مع أنها قد لا توجد الآية كلها مكررة بعينها أما الجمل في الآيات والكلمات فيها فهو كثير ولكن كلّ لمناسبة أخرى وقد بيّنا بعض أسباب التكرار في الآية الأخيرة من سورة الكافرين في ج1 ولا يخفى أيضا أن التكرار واقع في بيان التوحيد وأحوال القيامة وقصص الأنبياء، وذلك أن العرب كانوا وثنيين ينكرون هذه الأشياء ومثلهم أهل الهند والصّين والمجوس فلأجل التقرير والتأكيد اقتضت حكمة اللّه بالتكرار في الجمل والكلمات ومعنى الآيات لا الآيات نفسها وهو من إعجاز القرآن وبلاغته فكان التحدي فيه بالبلاغة والفصاحة في الجمل والكلمات والآيات إيجازا وإطنابا مع مراعاة الدّلالة على المعنى في كلّ وحفظ أعلى مرتبة البلاغة في كلّ من الموجز والمطنب ليعلم أن القرآن ليس من كلام البشر لأن هذا الأمر عند البلغاء يعدونه خارجا عن طوق البشر ومن أراد أن يطلع على تفاصيل أسباب التكرار فليراجع ص31 وما بعدها من كتاب إظهار الحق ج2 في الباب الخامس لصاحبه المغفور له رحمة اللّه الهندي.قال تعالى: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن آمرة {أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} قدم الإيمان لأن الجهاد بدونه لا يفيد {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} الأغنياء القادرون على الجهاد مالا وبدنا الواجب عليهم فيها {وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} [86] المعذورين عن الجهاد.قال تعالى موبخا لهم على قولهم هذا: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ} لضعف إيمانهم وقلة يقينهم وزيادة جبنهم وكثرة خوفهم وكان عليهم لو كان عندهم مروءة أن لا يرضوا لأنفسهم ذلك الخزي والهوان ويعدون أنفسهم من قسم النّساء والصّبيان ومن هو في حكمهما من المرضى والعاجزين بل عليهم أن يسارعوا إلى ما فيه عزهم وفخارهم ويلبّوا أمر رسولهم طاعة لربهم ولكنهم عدلوا عن ذلك كله {وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [87] مراد اللّه في الجهاد ولا يعلمون أنه لمصالحهم واعلم أنه لم تدخل ما بعد إذا هنا لاحتمال تطرق النّفي فيما بعدها ومثلها في الآية [30] من سورة محمد عليه السّلام المارة لأن ما لا تدخل بعد إذا مطلقا كما يفعله بعض من لم ينظر إلى ما بعدها حتى أن كتبة هذا الزمن تجدهم يدخلونها بصورة مستمرة غير ناظرين إلى المعنى الذي يتخيل منها لقلة معرفتهم بالعربية واغترارهم بالقاعدة (إن ما بعد ذا زائدة) ولا يعرفون أن الزائد لا يكون في كتاب اللّه كما لا يوجد النّاقص فيه وسنبين لك هذا البحث مستوفيا في [الآية 123] الآتية بعد وقد بينا بعضه في [الآية 93] من سورة المائدة المارة فراجعها قال تعالى: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} لا يستأذنون ولا يرضون لأنفسهم الذلة والمهانة بالتخلف بل رغبوا بما عند اللّه تعالى من الأجر والثواب ولذلك {جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} لإعلاء كلمة اللّه وعزة المؤمنين فرخصوا أنفسهم فباعوها في سبيل اللّه ولم يحسبوا للموت حسابا، وكان قائلهم يقول:فهؤلاء الرّجال الّذين يحبون الموت لتوهب لهم الحياة الطّيبة في الدّنيا والآخرة لا أولئك {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ} في الدّنيا من الغنائم والتفوق على غيرهم من الإقدام والتفادي {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [88] الفائزون في الآخرة إذ {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها} جزاء طاعتهم للّه ورسوله {ذلِكَ} الجزاء الحسن هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [89] الذي لا يوازيه فوز، وفخر عظيم لا يعادله فخر، وأجر كبير لا يقابله أجر.
|